بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

         قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، وبالضبط في شهر غشت من سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف – وبعد أن كنت نشرت أطروحتي عن "القصيدة"Œ الزجلية، ودراسة مُستجمعة "من وحي التراث"، وأخرى عن "الحرية والأدب" Ž - أصدرت مؤلفاً بعنوان: "الثقافة في معركة التغيير"، جمعت فيه كتابات تهم قضايا تلكم المرحلة، كمسألة التراث والمعاصرة، وما لها من تأثير في معركة المصير، وكذا الثورة والثقافة الوطنية، ودور المثقفين، وأهمية الجامعات في إحداث التغيير.

 

         يومئذ كان الحديث عن هذا التغيير يثير متاعب لمن يجرؤ على تناوله ؛ بل كان مجرد التلفظ بكلمته يجر الويلات على من يستعملها أو يذكرها، ولا سيما حين تقرن بالمعركة أو بالثقافة، ويجعله في عين خصومها يصنَّف ويُسلك ضمن تيارات لم تكن حينئذ منظوراً إليها برضى واطمئنان. وقد عانيت من ذلك على مختلف الواجهات – بما فيها الجامعية التي يُفترض فيها أن تكون الموقع الثقافي بامتياز – ما لو أردت أن أتحدث عنه لاحتجت إلى مجال لا تتسع له صحائف هذا الكتاب، فضلاً عن أسطر مقدمته.

 

         والأسف شديد أننا إلى الآن، وعلى الرغم من مضي أزيد من ثلاثة عقود، ما زلنا على صعيد أمتنا العربية والإسلامية نناقش الموضوع نفسه، بتردد ويأس حيناً، وباقتناع وتفاؤل حيناً آخر ؛ مع أن الظروف المحلية والإقليمية والعالمية تطورت، وأفرزت بإيجابياتها وسلبياتها إكراهات تأكد أنه لا سبيل للتغلب عليها ورفع تحدياتها

 

__________________________

Œ مطبعة الأمنية بالرباط – 1390هـ-1970م.

نفسها – يناير 1971.

Ž نفسها – مايو 1971.

طبع دار النشر المغربية بالدار البيضاء – 1972.

إلا بالتغيير الشامل، وإن وقع الميل – في الغالب وفي شبه اتفاق – إلى استبدال الإصلاح بالتغيير، بعد أن غدا شعاراً يتردد على جميع المنابر، وكأنه يبدو أخف وطئاً وأَدعَى للقبول ؛ مع أنه هدف قد يكون التغيير إحدى وسائله.

 

** ** **

 

         إن العرب والمسلمين اليوم يواجهون مشكلات كثيرة تراكمت خلال فترات طويلة. وهم واعون بها منذ بدء احتكاكهم بالغرب، وإدراكهم مدى تقدمه وتخلفهم عنه، وإن لم يستطيعوا – رغم يقظتهم نتيجة هذا الاحتكاك والإدراك – أن يضعوا على أنفسهم السؤال العميق حول هذه الحقيقة: لماذا تأخروا هم وتقدم غيرهم ؟ أو بالأحرى لم يستطيعوا الإجابة الواضحة والصريحة عن هذا السؤال القديم الجديد، وما يتبعه من استفسار عن دور المسؤولين عن ذلك، وإن كانت الإشارة غالباً ما توجه إلى النخبة الممثلة في المفكرين، والمثقفين عامة، أولئك الذين توافرت فيهم جملة شروط، بدءاً من المعرفة في أوسع مجالاتها، إلى رهافة الحس، وعمق الوعي، وحيوية الضمير، والتشبع بالقيم، والتمتع بالمصداقية، وإمكان كسب ثقة الآخرين عن جدارة. وهي الشروط التي تؤهل المستحقين للانتساب إلى الثقافة، أن يكونوا أصحاب رؤية ورأي، قادرين بهما على التعبير والتخطيط والتنفيذ، ثم على الإنتاج والتأثير الفاعل به.

 

         فعلى الرغم من ظهور دعوات إصلاحية نادى بها علماء ومفكرون من هذا الصنف، على امتداد أطراف العالم العربي والإسلامي منذ بداية نهوضه قبل نحو قرنين، فإن هذه الدعوات ظلت غير ذات صدى، أو كان لها صدى خافت لم يحقق الهدف المنشود.

 

         والسبب أنها كانت، بحكم طبيعة الفترة ومنظور أصحابها وثقافتهم، غير قادرة على ملامسة بعض القضايا العميقة وإثارة المشكلات الناتجة عنها. ثم إنها بقيت حبيسة تلك النخبة، لم يتح لها أن تصل إلى أولي الأمر بسبب عوامل داخلية وخارجية معقدة، أو وصلت ولكنها كانت بدون رد، فضلاً عن أن يكون هذا الرد بالإيجاب. كما لم يتح لها أن تبلغ الجماهير التي كانت - لطغيان الأمية عليها - منعزلة عن كل ما يجري في الساحة، والتي كانت غير مبالية بمثل هذا الشأن، لتخبطها في مشاكل الحياة اليومية بمعاناة قاسية.

 

         ولعل هذه الحقيقة الأليمة ما زالت للأسف قائمة لحد الآن، مع الإشارة إلى أن تطورات كثيرة - ثقافية وحضارية - مست المجتمعات العربية والإسلامية طوال المرحلة المذكورة ؛ ومع الإشارة في الآن نفسه إلى تقلص دور المثقفين الذين اضطروا أمام ضغوط كثيرة، إلى التوقف عن أداء رسالتهم، أو الوقوف تجاهها حائرين، إلا ما كان من فئة محدودة مغلوبة على أمرها لم يعد لها التأثير اللازم، إذ بدا قصورها واضحا عن قيادة المجتمع والنظر في قضاياه الملحة، على الرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها صادقة مخلصة.

 

         ومن ثم، لا يُستغرب إذا ما لوحظ اتجاه شرائح شعبية عريضة نحو من استغلوا هذا الفراغ، وأخذوا يملأونه بأفكار خرافية تدجيلية أو دعاوى غالية متطرفة، أو غير هذه وتلك مما يُلهي الناس ويبعدهم عن الهموم الحقيقية، وربما يبلد إحساسهم ويصرفهم عن كل ما يقتضيه الإصلاح ويدعو إليه. وقد يتخذون مواقف عشوائية هي في الغالب ضارة بهم وبالمجتمع ومؤخرة لأي إصلاح. وهذا ما فتح الطريق لبديل من الإصلاح يُفرض من الخارج، وإن كان مرفوضاً على ما يبدو من الجميع.

 

** ** **

 

         إن رفض العرب والمسلمين لأي إصلاح يكون موحىً به ومخططا له من جهة خارجية، هي الولايات المتحدة القائدة للنظام العالمي الجديد، هو في الواقع رفض لما يكمن خلف سياسة هذه الجهة من عمل على أن تبقى إسرائيل، ليس فقط في موقع آمن إلى جانب مواقع أخرى آمنة كذلك، ولكن على أن تكون لها السيادة والنفوذ في هذه المواقع.

 

         وهو الوضع الذي تظن القيادة الأمريكية - خطأ - أنه هو وحده الضامن لمصالحها المرتكزة في المنطقة على مصادر الطاقة، والمفضية بالتحكم فيها وفي مواقعها الاستراتيجية إلى إظهار التفوق وفرض السيطرة الاقتصادية، ثم العسكرية والسياسية على العالم الذي غدت، بما لها من قوة ونفوذ، وكأنها وصية على جميع دوله، تختار لهم أو تمنع عنهم ما تشاء ؛ ولاسيما بعد أن بدأت تهتز دعائم الاتحاد الأروبي، على إثر رفض عدد من الدول المعنية لدستوره. ولو تسنى لهذا الاتحاد وجود قوي، لكان بحق عنصر توازن وتخفيف لحدة تلك القوة وذاك النفوذ.

 

         وحتى تكون دول المنطقة مسعفة في تحقيق ذلك الهدف التوسعي وطيعة له كذلك، فإن الولايات المتحدة ترى ضرورة إعادة تشكيل خارطة هذه الدول وتطوير أنظمتها، وإدخال بعض الإصلاحات الديموقراطية فيها. وهي تدعوها لذلك، كي تكون قابلة لهذا النمط من العولمة والتحديث ومدعمة له وجزءاً منه ومستهلكة له، حتى ولو أدت الثمن من قدرات اقتصادها الوطني، إضافة إلى ما لها من إمكانات ثقافية تكون معرضة للضياع أو التشويه.

 

         ذلكم أن العولمة، وخاصة في هذا الجانب الاقتصادي الذي تتحكم فيه وتحتكره شركات كبرى دولية عابرة للقارات، تثير الكثير من المشكلات التي يرجع بعضها إلى صعوبة تحرير الاقتصاد المحلي وتأهيله، وما ينتج عن هذا التحرير من مس بالسيادة الوطنية، ومن إحداث أزمات داخلية أبرز مظاهرها كساد الوضع التجاري بمختلف مكوناته، مع ارتفاع نسبة البطالة وما يتبعها من فقر يزيد بتفاحشه في تضخيم الفوارق الاجتماعية وإظهارها.

 

         كما أن التحديث المرتبط بالحداثة الغربية وما بعدها، ينبغي أن يراعي الاختلاف بين الظروف التي نشأت فيها هذه الحداثة في الغرب، وبين واقع المجتمعات العربية والإسلامية. ومن ثم فإن التحديث المأمول يقتضي - حتى يكون إيجابيا - مراعاة ذاك الواقع، وعدم الابتعاد عن القيم، سواء في جانبها الخاص المتصل بالدين ولغة المجتمع وثقافته ؛ أو في جانبها العام المعتمد على حرية الإنسان وكرامته وحقوقه ؛ مع اعتبار منظور متفائل ومتسع للكون والحياة فيه وللمستقبل ومسيرة التاريخ كذلك.

 

         هذا، بالإضافة إلى أن الرفض لأي إصلاح يُفرض من الخارج، نابع من الحق في رفض أي تدخل أجنبي غير مشروع نحو أقطارنا العربية والإسلامية، وحتى نحو أي قطر آخر، سواء من الناحية القانونية أو السلوكية. كما أنه نابع من الحق في أن تدافع كل دولة عن سيادتها ومكونات ذاتها ومقومات كيانها. وهو نابع بعد هذا من الحق في أن تكون لهذه الدولة اختيارات تبني عليها سياستها ومواقفها، بغض النظر عن مدى ملاءمة هذه الاختيارات لما عند غيرها.

 

         في هذا السياق، وتجنباً لكل سوء فهم، وحفاظاً على علاقات طيبة عريقة مع العالم العربي والإسلامي، فإنه ينبغي للولايات المتحدة أن تزيل الوهم الواقعة فيه بأنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الخطر الشيوعي، فإن ما أصبح يهددها هو هذا العالم الذي تتهمه وعقيدته بالتطرف والإرهاب، وما نتج عن هذه التهمة الباطلة من إشاعة مشاعر كراهية الإسلام (إسلاموفوبيا). هذا في وقت يفترض فيه أن يكون العرب والمسلمون أصدقاء لها وحلفاء. وهو افتراض قد يتحقق إذا ما أزيل ذلك الوهم، وإذا ما أنهي الاحتلال التدميري للعراق وعولجت آثاره النفسية والمادية. وإنه لأمر ممكن وغير مستعص إذا وجدت الإرادة اللازمة له، خاصة وقد ظهرت بوادر رغبة في المحادثة بهذا الشأن مع الجهات المقاومة لها وللاحتلال.

 

         ولعل التقارب الملاحظ الآن في السياسة الأمريكية على الصعيد العام تجاه الحركات الإسلامية المعتدلة، أن يكون بداية مرحلة جديدة في العلاقة مع العرب والمسلمين، ما لم يتبين أنه مجرد سلوك عابر تمليه المصلحة الوقتية، والأمل في احتواء هذه الحركات، لما لها من تجذر في الجماهير الغاضبة، وربما استغلالها لإزعاج الأنظمة القائمة.

 

** ** **

 

         والحديث عن الاختيارات يقتضي البدء بالمسألة السياسية التي كثر تناولها في هذه الأيام مقرونة إلى الإسلام، ما بين القابلين أن يكون لهذا الدين دخل فيها وتوجيه لها، وبين الرافضين لذلك، الداعين إلى علمانية تعتمد فصل المجالين، وبين الذين يرون تأجيل النظر في الأمر، ويبدون تردداً وتحفظاً فيه لما له من خطر وأهمية.

 

         إلاّ أن هذه المواقف جميعها لا ينبغي أن تؤدي إلى القول بأن الإسلام لا صلة له بالسياسة، أو أن العلماء - والمثقفين عامة - لا ينبغي أن ينشغلوا بها. فالسياسة ميدان واسع يمس مختلف شؤون الحياة، والذين لا يعنون بها أو يبعدونها عن اهتماماتهم هم في الحقيقة بعيدون عن مجتمعهم، وغير مبالين بهمومه. وهي إلى هذا الملمح الواقعي، تضيف ملمحاً آخر يؤهلها لاحتلال مكان بارز في هذا الميدان، والنهوض بدور فاعل فيه، بما لها من قدرة على التوقع، من خلال رؤية مستقبلية لا يمكن أن تصدر إلا عن وعي ثقافي وعمق فكري وقدرة على التدبر البعيد.

 

         وبناء على هذه الحقيقة، فإننا نرى أن القضية تحتاج إلى إعادة النظر بتأن واعتدال في مختلف الأنظمة التي تسير عليها الأقطار المعنية، من خلال رؤية إسلامية صحيحة وواضحة، تهدف إلى تحقيق التنمية الشمولية، وإرساء دعائم الديمقراطية الحق في بعدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع تعميق التأمل عبر الشورى في قضية الحكم.  ونعتبر ذلك من الأولويات التي تلزم العناية بها في الإصلاح ؛ مع التنبيه إلى أن الديموقراطية - أو الشورى - بدون أهلية لممارستها قد تتحول إلى نقيضها لتركز الديكتاتورية، ولا سيما في غياب التنمية ببعدها الإنساني المتكامل.

 

         إن عدداً من المعضلات التي تواجه هذه الأقطار، يكمن - ليس في التمسك بالدين والإلحاح على ضرورة اعتماده كما يظن - ولكن في الاختلالات التي تعرفهـا

 

_______________________________

انظر ما حرره الكاتب عن هذه المسألة في مؤلفيه:

*) الإسلام و اللائكية (بالعربية والفرنسية والإنجليزية) - طبع بالرباط (1424هـ-2003م) ضمن منشورات النادي         الجراري -رقم 26

*) الدولة في الإسلام: رؤية عصرية - طبع بالرباط (1425هـ-2004م) ضمن المنشورات نفسها -رقم 27

أنظمتها عامة، والتي تكفي الإشارة منها إلى تعثر الإجراءات المتخذة لإحلال الديموقراطية فيها وفق النمط الغربي، إن لم نقل فشلها، وإلى تفاقم المشاكل الاجتماعية التي تتمثل في تفشي الأمية وتضخم الفقر وتزايد الإقصاء وتفاحش البطالة واتساع الفوارق الطبقية وانتشار الفساد في مختلف صوره، والتي يتوقف حلها على إجراء إصلاح شامل ومتكامل.

 

         صحيح أن هذا الإصلاح وارد بل حاصل لا ريب، سواء في أمد قريب أو بعيد، أي بغض النظر عن نوعه وعن الموقف منه ؛ ولكن حتى لا يكون على غير ما تستلزمه الحاجة، وحتى لا يتم على يد قوى أجنبية من المؤكد أنها ستوجهه لصالحها، فإنه لابد من إرادة محلية لإجرائه.

 

         والمقصود بالإرادة أن تكون الرغبة في تحقيقه داخلية، ومنطلقة من الوعي بأهميته وجدواه، والإحساس بضرورته وحتميته. وإن وجود هذه الإرادة ليقترن - ويجب أن يقترن - برؤية واضحة تنطلق بتواضع وفي غير استعلاء، من نقد شجاع للذات في جميع مستوياتها، على ألا يكون قصده بث روح اليأس فيها والإحباط، ولكن كشف الأخطاء والمصارحة بها والبحث عما به تُصوَّب وتُصحّح.

 

** ** **

 

         ومن ثم، تفضي الرؤية بتفاؤل واستبشار إلى التخطيط لذاك الإصلاح وتوجيهه، حتى لا تصيبه الفوضى أو العشوائية. وهي مسؤولية النخبة الواعية والمتنورة، من علماء ومفكرين ومثقفين عامة، ممن ينطبق عليهم الوصف الذي سلف ذكره.

         إن هؤلاء الذين يلقى عليهم العبء بكل تبعاته - أو بعضهم على الأقل - يقفون اليوم في حيرة من أمرهم أمام هذا الواقع المرير، مترددين في اتخاذ الموقف اللازم منه ؛ أبالتعاون معه والانخراط في دواليبه رغم ما ينخره من خلل وفساد ؟ أم بالابتعاد عنه والاحتفاظ بالقدرة على انتقاده والجرأة على تقويم اعوجاجه حسب الإمكان ؟

 

         ويبدو أن هذا التردد راجع إلى ما يتملك تلك الفئة من المثقفين ويسكنهم من قيم يومنون بها، ولا يمكنهم التخلي عنها ؛ وإن تخلوا ضاعت مصداقيتهم مع ذاتهم ومجتمعهم. وهم يخشون تعريضها للضياع إن قبلوا الاندماج في هذا الواقع والمشاركة في تسييره، دون إمكان تحقيق التصحيح المطلوب لجميع بنياته.

 

         والسبب أن مثل هذا التصحيح يتطلب مراجعة كثير من هذه البنيات - سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية - وكذا جل المساطر والتشريعات التي أسست عليها أو اعتمدتها. وقد لا تتسنى هذه المراجعة قبل تشكُّل جديد للرؤى وما يترتب عليها من مظاهر شتى للحياة والإنسان، في نطاق مشروع مجتمعي تتأكد فيه الحقوق والواجبات، مع التركيز على هذه الواجبات التي غالباً ما تُهمل وتُنسى في سياق المناداة بتلك الحقوق، حتى ما كان منها غير مشروع، والتي يتطلب النهوض بها نشر قيم العمل والإنتاج، في إطار من الجد والمثابرة والصدق والإخلاص.

 

         وسيتبع ذلك لا شك - أو يسبقه - إجراء معاودة تحديثية لوضع النخب التي هي القوى الحقيقية لتوجيه المجتمع، بما يلائمه في سيره، وما يتحكم فيه من نواميس وقوانين، وبما يُغني هذه النخب من طاقات شابة، ويجعلها مؤهلة لتمثلات جديدة تستفيد لا شك من الاستقطابات السياسية والثقافية السائدة، على الرغم من أن هذه في بعضها لا تثبت للمعاودة وقد لا تقبلها.

 

         ولعل المفكرين والعلماء والفقهاء الذين يحتلون الموقع المتميز في هذه الاستقطابات، هم أكثر حاجة من غيرهم إلى التحديث الذي قد يسعفهم في الانتقال - عن جدارة إذا ما تجاوزوا عوائق الوصول - من ثقافة القضية إلى ثقافة السلطة، أي من ثقافة الانعزال بما يكتنفها من تردد وحيرة أو سخط وتذمر مهما يكن فيها من نقد إيجابي، إلى ثقافة ميدانية عاملة، قادرة على البناء والتأسيس، تكون مرتكزة على العلم والعقل والإبداع، أي على الاجتهاد الذي لا يكون موجّهاًً لتبرير تصرفات منحرفة ؛ مع المحافظة على القيم الحقيقية والمبادئ الصحيحة، في غير تضحية بها قد تؤدي إلى انتهازية متزلفة أو انهزامية محبطة. وهو وضع قابل للتبديل، إذا ما استعاد المثقفون الثقة بأنفسهم وفكرهم، وبدورهم الحق يؤدونه بحرية وشجاعة ومسؤولية، غير لاَبِسين الحق بالباطل ولا كاتميه عن قصد وعلم، وكذا إذا ما أتيحت لهم فرص الاندماج.

 

         وإن هذه الإتاحة لتتوقف على مدى عناية الدولة بهم، مع كل ما تستوجبه هذه العناية من تكريمهم واعتزاز بكفايتهم وجهودهم، مع الاستماع إليهم والعمل بآرائهم وتوجيهاتهم، وكذا تقريبهم من مراكز المسؤولية وإشراكهم فيها تخطيطاً وحتى تنفيذاً، حتى لا يصيبهم التهميش والإقصاء وما ينتج عنهما من مواقف غالباً ما تكون مجرد رد فعل قد يصل إلى حد بعيد في الرفض والإنكار والعداء.

 

         على أن الحديث عن المثقفين وأهميتهم لا ينبغي أن يفهم منه إلغاء الجماهير أو التقليل من شأنها ؛ بل إن قيمة دورهم تكمن في مدى ارتباطهم العضوي بها والتعبير عنها واستمداد القوة منها والقدرة على الفعل والتأثير، بما لهم من مسؤولية يتحملونها، سواء أكانوا في مواقعها الرسمية إذا تسنت لهم الظروف الملائمة، أم كانوا خارجها حين لا تتاح تلك الظروف كما هو الحال في ظل الأوضاع الراهنة.

 

** ** **

 

         ومع ذلك، فإن الثقافة في بداية الأمر ونهايته - وليس غيرها - هي وحدها القادرة على التخطيط لإصلاح حقيقي وعميق في جميع جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية، بكل ما يستلزم هذا التخطيط من أدوات وآليات. وذلكم تحفزاً - كما سبق القول - من رؤى ومناهج قائمة على تشخيص سليم للواقع وما فيه من أزمات خانقة. وهو ما يستوجب التحلي بالجرأة اللازمة لبحث هذه الأزمات والكشف عن أسبابها وتوعية الشعوب بها وبما يتطلب حلها، حتى تقتنع وتساير وتشارك، في غير وقوف للشماتة والتشفي، أو انتظار الذي لن يأتي أبداً بناء على آمال سرابية ووعود كاذبة.

 

         والتحفز من الرؤى المتسمة بالشمولية والتكامل، والدالة على وعي بمختلف الملابسات وإدراك لحقيقتها، يعني منظوراً للمستقبل قد يراه بعض المعتنين ممكنا إذا وقع التخلص من الماضي، بما فيه من مرجعيات وما أنتجت من تراث يشد إلى الوراء - كما يقولون - لما علق به من شوائب على امتداد فترات التاريخ.

 

         صحيح أن شوائب كثيرة تشوه تراثنا وتسيء إليه، ولكنها ليست مبرراً لرفضه وإنكاره، فضلاً عن الهجوم عليه والطعن فيه. إن النظر السديد إلى هذا التراث للاستفادة منه، يتوقف على تصفيته من تلك الشوائب، بوضعه في ميزان العلم والعقل، وكذا على محك التـاريـخ وما عرف من تطورات وتقلبات، ثم تأمله - بثوابته ومقدساته - في ضوء الواقع بكل مكوناته وما يحتاج من إصلاح. فذلكم هو وحده الكفيل بإبراز ما لهذه الثوابت والمقدسات من رسوخ وما تختزنه وتختزله من حقائق حيّة وفاعلة، وليس مجرد ترسب زائد تكون إثارته من قبيل الدعوى الفارغة أو الباطلة.

 

         ومع تصفية التراث على هذا النحو، ينبغي كذلك تصفية العقل العربي والإسلامـي من مشاعر التقديس الزائفة، ومن الأفكار الخرافية الساكنة فيه وفي الوجدان ؛ لإمكان استخلاص القيم الصحيحة والدعائم القوية التي هي خير دافع للمستقبل في أمده القريب والبعيد.

 

** ** **

 

         وليس الأمر سهلا على الإطلاق، لأن الإصلاح - من حيث هو - بما يقتضي من تصحيح لواقع معين غالباً ما يكون فاسداً أو غير ملائم، يجعلنا نتصور ما يحيط به من صعوبات ينبغي الصبر على تحملها لتجاوزها والتغلب عليها، على أن يتم ذلك بموضوعية وعقلانية، وبفهم للحاضر وتمثل للمستقبل، واستعداد لرفع كل التحديات الآنية، وكذا للنهوض بالمسؤوليات الجديدة.

 

         في هذا الإطار، يجدر التنبيه إلى أهمية الإعلام الذي يتحمل - بالحرية التوجيهية والنقدية التي يتمتع بها - عبئاً كبيراً في التوعية بالإصلاح، إن لم أقل الإسهام في صنعه وقيادته ؛ لكن ليس كما تفعل بعض وسائله للأسف، بأسلوب يعتمد الإشاعة والإثارة والطعن العشوائي في هوية الأمة ومالها من مرجعيات.

 

         مهما يكن واقع هذا الأمر، فإن ما يجب استحضاره هو أن المشكلات التي تواجه العرب والمسلمين اليوم، تتجلى حقيقتها في السعي إلى التقدم والبحث عن وسائل بلوغه، بدءاً من تطوير أنظمة الحكم التي هي في بعضها متهالكة، إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية التي في سلامتها يكمن ضمان استقرار هذه الأنظمة. وبعد ذلك ينظر في إمكان التوفيق بين مقتضيات العولمة بقيمها الجديدة التي لا تخلو من ملامح إنسانية، وبين متطلبات الهوية الصحيحة والثابتة في مقوماتها الوطنية ومكوناتها العربية والإسلامية.

 

         ولعلنا أن نؤكد ما أوضحناه أكثر من مرة، من أن هذه الهوية تتمثل في الدين واللغة والثقافة والوطن. أما الدين فهو الإسلام إلى جانب الديانات الأخرى التي يتعايش معها بتسامح في أقطار معينة. وأما اللغة فهي العربية باعتبارها لسان القرآن الكريم، ومعها اللغات المحلية وما يساكنها من لهجات عامية. ومن هذين المقومين تتشكل الثقافة بتراثها في جانبيه المدرسي والشعبي، وما يغتنيان به من تنوع وتعدد، مع ضرورة تقريب ما هو جامع واستبعاد ما هو مفرق، وكذا مع الجنوح الصادق إلى محاورة الذات والآخر بهدف التفاهم والتكامل. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن مقومات الهوية ولا سيما منها الثقافة في عمومها - هي أقدر من السياسة الاحترافية على التقريب بين الشعوب المتباعدة وإشاعة روح التعايش بينها، على الرغم من وجود

 

______________________________

على نحو ما في الكتابين:

  *) الثقافة من الهوية إلى الحوار (طبع بالرباط 1413هـ-1993م) ضمن منشورات النادي الجراري -رقم 3

  *) هويتنا والعولمة (طبع بالرباط 1421هـ- 2000م) ضمن منشورات النادي الجراري -رقم 18

انظر الدراسات المنشورة للكاتب في هذه المسألة، وهي:

  * ) مفهوم التعايش في الإسلام (بالعربية والفرنسية والإنجليزية) نشر الإيسيسكو 1417هـ- 1996م.

  *) الذات والآخر (بالعربية والفرنسية) طبع بالرباط 1418هـ-1998م - ضمن منشورات النادي الجراري - رقم 13

  *) الحوار من منظور إسلامي (باللغات الثلاثة) نشر الإيسيسكو 1420هـ-2000م.

اختلافات ثقافية ؛ بل لعل هذه الاختلافات هي التي تجذب المجتمعات المتباينة ثقافيا لمزيد من التآلف المفضي إلى التعاون والتحالف بناء على مبادئ وقيم. هذا في وقت يؤدي تعارض المواقف السياسية إلى التنافر الذي غالبا ما يقود إلى الصراع والعداء في اعتماد على الخداع وتحكيم المصالح.

 

         هذا، ومع المكون الديني واللغوي والثقافي للهوية، يبرز الوطن، بدءاً من حدوده الضيقة إلى امتداده عبر العالم العربي والإسلامي الشاسع. ذلكم أن الوطن في مفهومه الظاهر والمحدود يجسم الأرض التي يولد فيها المنتمون إلى تلكم الهوية ويحيون فيها ويموتون. وهو في مفهومه الخفي والواسع يعتبر القسمة المشتركة والخيط الواصل بين هؤلاء، والجامع لأمرهم، والمغذي لكل الروابط النفسية والفكرية الناتجة عن وجودهم في هذه الأرض، والدافعة لهم إلى حمايتها والذود عنها والاستماتة في سبيلها، والباعثة لهم على معانقة الذين يلتقون معهم عبر هذه الروابط، حتى وإن كانوا يعيشون في أرض بعيدة عنهم.

 

         ومن ثم، يلزم التمييز في الإصلاح بين بعده الوطني المحلي، وبعده العربي والإسلامي، ثُمّ بعده العالمي والدولي. وهي عملية تستوجب اعتبار مستلزمات كل هذه الأبعاد، في حفاظ على مقومات الذات، ومع الحرص على تحقيق حلم الوحدة وبلورته في صيغة ملائمة، وكذا مراعاة ضرورة الإندماج فيما هو إنساني والتعاون معه ؛ على أن يتم  هذا كله بوعي وتعقل، وباعتدال واتزان، وفي غير تفريط أو إفراط، لأن غلبة أي منهما تُفضي حتماً إلى ضده و نقيضه، وذلكم هو مكمن الصعوبة في المعادلة.

 

** ** **

 

         وبعد، فإسهاماً مني في بحث هذه المعادلة التي تحتاج إلى كثير من الدرس والتأمل، لإيجاد الحل الملائم لها والصحيح، أنشر هذا الكتاب الذي مهدت له بهذه المقدمة التي حاولت فيها تناول إشكال الإصلاح المأمول، والذي يضم بين دفتيه مجموعة من العروض كنت قدمتها في وقتها، وشاركت بها في مؤتمرات ومنتديات نظمتها مؤسسات وهيآت معنية بهذه القضية، وفق منظور شمولي يراعي جوانبها المختلفة.

 

         وهي كالآتي وفق تاريخ تقديمها، وعلى النحو الذي تم به هذا التقديم:

 

1- حضارة إنسانية وهويات مختلفة.

2- منظور العرب والمسلمين للولايات المتحدة الأمريكية.

   (من خلال عوامل التلاقي والتباعد).

3- صراع أم حوار ؟ بل هو حوار ... ولكن.

4- التجديد الثقافي أول شروط التغيير الشامل.

5- أي مستقبل عربي في ظل ثقافة التغيير ؟

6- أهمية الثقافة العربية في إبراز الهوية لمواجهة العولمة.

7- اللغة العربية: واقع يحتاج إلى تطوير

8- منطلقات لخطاب إسلامي معاصر.

 

         فلعل هذه العروض - مع التقديم الممهد لها - أن تلقي بعض الضوء المسعف في تلمس الطريق الصحيح الموصل إلى الإصلاح المنشود.

 

         وبالله التوفيق.

 

الرباط في فاتح جمادى الثانية 1426هـ                                             عباس الجراري 

الموافق 8 يوليوز 2005م